مليون ونصف المليون نازح.. متى يتوقف نزيف الدم والانتهاكات في هايتي؟
مليون ونصف المليون نازح.. متى يتوقف نزيف الدم والانتهاكات في هايتي؟
تواجه هايتي واحدة من أعنف الأزمات الإنسانية والأمنية في تاريخها الحديث، وسط دعوات حقوقية ملحة لمجلس الأمن الدولي من أجل التحرك العاجل لحماية السكان من دوامة العنف والجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فقد تحولت العاصمة بورت أو برنس، ومعها مناطق كانت تعد آمنة نسبياً، إلى ساحات مفتوحة تسيطر عليها العصابات، في حين يرزح ملايين السكان تحت وطأة الجوع والنزوح، في وقت يشهد فيه المجتمع الدولي جدلاً متزايداً حول فعالية البعثات الأمنية التي أُرسلت إلى البلاد.
بحسب الأمم المتحدة، قُتل ما لا يقل عن 3137 شخصاً في النصف الأول من عام 2025 وحده، في حين نزح نحو 1.5 مليون شخص داخلياً، وتشير التقديرات إلى أن نصف السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، مع تراجع شبه كامل للخدمات الأساسية من تعليم وصحة وإمدادات مياه، وعطل العنف المتصاعد أيضاً وصول المساعدات الإنسانية، وأدى إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد.
الأسباب الجذرية للأزمة
تعود جذور المأساة الهايتية وفق بيان أوردته “هيومن رايتس ووتش” -السبت- إلى خليط معقد من العوامل يشمل هشاشة مؤسسات الدولة، وفساداً سياسياً متجذراً، وضعف قدرات الشرطة الوطنية، وفشل الحكومات المتعاقبة في استعادة الثقة الشعبية، وقد تفاقم الانفلات الأمني بشكل خاص بعد اغتيال الرئيس جوفينيل مويس عام 2021، وهو الحدث الذي مثّل منعطفاً خطيراً في تاريخ هايتي الحديث، مع غياب قيادة سياسية مستقرة وانقسامات حادة، تمددت العصابات المسلحة، مستغلة الفراغ الأمني والسياسي، وفرضت سيطرتها على أحياء العاصمة والمناطق المحيطة.
مطالب حقوقية وأممية
منظمة هيومن رايتس ووتش، ومعها منظمات محلية ودولية، طالبت مجلس الأمن بأن يتخذ قراراً عاجلاً بتحويل بعثة الدعم الأمني متعددة الجنسيات التي تقودها كينيا إلى بعثة أممية كاملة الصلاحيات، مزودة بتمويل مستدام وضمانات قوية لحقوق الإنسان، وتؤكد هذه المنظمات أن أي بعثة جديدة ينبغي أن تكون مؤهلة جيداً، ومجهزة بالقوة البشرية الكافية، وخاضعة لآليات مساءلة صارمة، حتى لا تتكرر أخطاء الماضي التي شابت بعثات سابقة وفشلت في حماية السكان.
الأمين العام للأمم المتحدة كان قد أوصى في فبراير 2025 بضرورة تعزيز قوة الأمن المشتركة لتضم نحو 5500 فرد من الشرطة والعسكريين والمدنيين قادرين على العمل بشكل مستقل أو بالتعاون مع الشرطة الوطنية، وتقدمت الولايات المتحدة وبنما بمشروع قرار لتفعيل هذه القوة، مع إنشاء مكتب دعم أممي جديد لتنسيق الجهود اللوجستية والتقنية، غير أن القلق ما زال قائماً من غياب الضمانات المالية والكوادر الكافية، وهو ما تحذر منه المنظمات الحقوقية باعتباره تهديداً جدياً لنجاح أي مهمة مستقبلية.
الأبعاد الإنسانية للأزمة
خلف الأرقام قصص مأساوية لا تنتهي فهناك آلاف العائلات أُجبرت على النزوح من بيوتها، نساء يتعرضن لعنف جنسي ممنهج، وأطفال محرومون من التعليم والرعاية الصحية، ويصف عمال الإغاثة الوضع بأنه "كارثة إنسانية صامتة"، حيث يعيش السكان في ظل خوف دائم من الهجمات أو الخطف أو فقدان أحبائهم، كما أن الأثر النفسي والاجتماعي للعنف يفاقم هشاشة المجتمع ويزيد من صعوبة التعافي.
ينص ميثاق الأمم المتحدة على مسؤولية مجلس الأمن في حفظ السلم والأمن الدوليين، ومع تفاقم الأزمة، يزداد الضغط على المجلس لتفعيل أدواته، ويلزم القانون الدولي لحقوق الإنسان الدول الأعضاء بضمان حماية المدنيين في النزاعات الداخلية، في حين تتيح آليات مثل الفصل السابع من الميثاق اتخاذ قرارات ملزمة بإرسال قوات حفظ سلام أو بعثات أمنية مسلحة، وشددت منظمات مثل العفو الدولية والمفوضية السامية لحقوق الإنسان على ضرورة إدراج حماية حقوق الإنسان بوصفها أولوية قصوى في أي تدخل، مع توفير آليات مستقلة للرصد والتحقيق في الانتهاكات.
ليست هذه المرة الأولى التي تواجه فيها هايتي تدخلاً دولياً، فمنذ تسعينيات القرن الماضي، عرفت البلاد عدداً من البعثات الأممية، أبرزها بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار (MINUSTAH) التي استمرت بين عامي 2004 و2017، ورغم أنها أسهمت في بعض فترات الاستقرار النسبي، فإنها ارتبطت أيضاً بفضائح، منها اتهامات بانتهاكات جنسية وإدخال وباء الكوليرا عام 2010 الذي أودى بحياة أكثر من 10 آلاف شخص، هذه التجارب جعلت الهايتيين ينظرون بريبة لأي بعثة جديدة، وهو ما يحتم على المجتمع الدولي تبني مقاربة شفافة وذات مساءلة صارمة.
التداعيات الإقليمية والدولية
تداعيات الأزمة في هايتي لا تقف عند حدودها. فقد تزايدت موجات الهجرة غير النظامية نحو الولايات المتحدة وجمهورية الدومينيكان وجزر الكاريبي، ما يهدد بزعزعة الاستقرار الإقليمي، كما يثير استمرار الفوضى مخاوف من تحوّل البلاد إلى بؤرة للجريمة المنظمة العابرة للحدود، بما يشمل الاتجار بالمخدرات والأسلحة والبشر، هذا البعد الإقليمي يجعل من الأزمة قضية دولية تتطلب معالجة عاجلة.
هايتي اليوم تقف على مفترق طرق حاسم إما أن يستجيب مجلس الأمن بسرعة لتطلعات السكان ويحشد قوة أممية قوية وممولة ومؤهلة لحماية المدنيين واستعادة النظام، أو أن يترك البلاد تغرق أكثر في مستنقع العنف والجريمة والانتهاكات. والرسالة الحقوقية واضحة تتجسد في أن حماية أرواح الهايتيين لم تعد خياراً، بل ضرورة إنسانية ملحة واختبار حقيقي لالتزام المجتمع الدولي بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان.











